المنبر التونسي (الانتحار) – يدرك المختصّون في علم اللّغة جيدا أن اللّغة أكبر وأهمّ وأعمق من أن تكون مجرّد أداة للتعبير. فهي- أي اللغة- نظام كامل للتفكير وشبكة مركّبة من دال ومدلول ومنظومة زاخرة بالمعاني والرموز. لذلك، فإنّه إذا أردنا أن نعرف ثقافة شخص معيّن وإيديولوجيته وتصوره للحياة أو كما يصف ذلك في تعبير بليغ الألماني ماكس فيبر «النظرة إلى العالم»، فإنه يكفي أن نُدقّق النظر في شقوق لغته والكلمات التي يستعملها أكثر من غيرها والمعاني ذات المستوى المركزي في معجمه الكلامي.
نعم كلام الشّخص، مهما كان مُستبطنا وغامضا ومشفّرا ،فإنه يكشف عن طريقة تفكيره ومرجعيّته ونظرته للأشياء.
في ضوء هذه المقاربة للغة، كيف يمكن قراءة تصريحات الذين يقومون بالعمليات الانتحارية من أنهم يعشقون الموت وأنّ الموت متعة والحياة لا قيمة لها؟
أتذكّر جيّدا ما صرّح به السيـــد إسماعيل هنية قبل قـــرابة أربـــع سنـــوات عنـــدما قـــال «نحن قـــوم نعشـــق الموت كما يعشــق أعــداؤنا الحياة» وتناقلت هذا التّصريح الصّـــريح مختلـــف القنــوات التلفزية وكأنّه بطل من أبطال الموت؟ وما هي المرجعية الثقافية، التي تتعاطى مع الموت من بوّابة العشق؟ ثم هل صحيح أنّ الموت الذي وُصف في كتابه العزيز بالمصيبة والذي شكّل المعضلة الكبرى في الحياة ومن أجله ابتكر الإنسان لنفسه أشكالا أخرى من الخلود ( ابتكار الفنّ مثلا)، يُواجه بها قدر الموت المحتوم .. هل صحيح أنه يمكن أن يكون موضوعا من موضوعات العشق؟
إننا أمام أعلى درجات الحب: العشق.
كما أننا أمام أكثر معضلات الإنسان الوجوديّة: الموت.
نعتقد أن هذه الثّقافة الصّادمة يمكن قراءتها نفسيّا وثقافيّا وسياسيّا. فعلى المستوى النّفسي هناك نوع من الإيهام، يُعبّر عن تبنّي استــراتيجيـــة دفـــاع مغلوطة. ذلك أنّها مع كلّ ما توحي به مغالطة من مكابرة واعتداد بالنفس وإظهار للثقة بالنّفس إلا أنها في حقيقة الأمر تكشف عن حالة من اليأس والإحباط. بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إنّ هذه المجاهرة بعشق الموت تمثّل نوعا من الانتحار الرمزي.
أمّا ثقافيا، فإننا نسجّل هيمنة الثقافة الأبويّة وسلطة الجماعة في الخطاب الذي يتغزّل بالموت ويمجّده والحال أنّ حالة العشق المشار إليها لا يمكن أن تكون إلاّ شخصيّة وفرديّة خلافا لظاهرة عشــق الحيــاة التــي تقــوم على إجماع إنسـانيّ مشتـــرك علنيّا وضمنيّا.
كمــا أنّ الإعلان عن عشـــق الـمـــوت مــن طـــرف المنتمين للتنظيمات الجهادية، يُعبّر عن تأثير إيديولوجي وفهم خاطئ للمرجعيّة الدينية الإسلامية وإحالة تاريخانية متعالية على الواقع في ارتباطها الضعيف والمتعسّف بمفهوم الجهاد ذي الشّروط الزمنية التاريخية الماضية.
لذلك فنحـن أمام لغة مؤدلجة لطالما أسهم تأدلجهــا المفخّــخ بالعنـف في التسبّب في صراعات مع الآخر وتمكين هذا الأخير من أدلّة ضدّنا وضدّ الثّقافة العربيّة الإسلامية وتسويقها في الرّأي العام العالمي.
إنّ لغة الموت وثقافته لم يجلبا للمجتمعات العربية الإسلامية نتائج يمكن أن يعتدّ بها.
إنّ خطاب عشق الموت هو الموت نفسه..
آمال موسى "ليدرز"