كان لسهرة الخميس 30 جويلية الجاري على المسرح الأثري بقرطاج بإمضاء الفنان جاسر الحاج يوسف مذاق خاص، كان الأمر كذلك لأن متعة الإحساس بالموسيقى المتقنة لم يكن يضاهيها سوى الإحساس بفخر أن الفنان النابغة الذي اعتلى المسرح العريق صحبة فريق من العازفين الممتازين تونسي.
فجاسر الحاج يوسف تونسي قلبا وقالبا وإن انتشر على المستوى العالمي وقدم عروضا كبيرة في مسارح عريقة وشهيرة بالخارج وخاصة بفرنسا وبلجيكا فإن روحه بقيت شرقية ويدل تعلقه بآلة “لا فيولا دي لاموري” التي أعاد اكتشافها على ذلك، فالألحان النابعة من هذه الآلة أو “كمان الحب” إن صحت الترجمة عذبة ورقيقة وفيها كثير من الشجن والحزن الذي لا يتدفق إلا من روح شرقية ذات إحساس متدفق.
جاسر الحاج يوسف الذي صاحبته فرقة وترية من باريس تضم عازفين مقتدرين إلى جانب عازف البيانو وعازفي الباتري أقنع وأمتع، وقد دعا إلى السهرة إحدى شهيرات فن الأوبيرا السوبرانو الألمانية سيمون كرماس والمطرب الإيراني المعروف محمد معتمدي وقد قدموا في آخر العرض لوحة موسيقية ثلاثية الأبعاد تتكون أضلعها الثلاثة من كل من العازف التونسي والسوبرانو الألمانية والفنان الإيراني طرب لها الجمهور وصفق مطولا إكراما وتبجيلا.
قدم جاسر الحاج يوسف خلال السهرة عرضه الجديد “ سيرة سامفونيك بروجيكت” الذي مزج فيه بين الموسيقى الكلاسيكية الغربية وبين الموسيقى الأصيلة التونسية فقد أدى مثلا الفنان الإيراني محمد معتمدي لحنا على قطعة من التراث الموسيقي الشعبي التونسي وبين عدة عوالم موسيقية خاصة تلك المستلهمة من موسيقات عريقة في الهند وإيران والباكستان كما أدت سيمون كرماس قطعة مؤلفة للسهرة مستلهمة من الموسيقى الإيطالية، أدتها بالأرامية.
كانت سهرة مهداة للمولعين بالموسيقى الخالصة، وقد قدم لهم جاسر الحاج يوسف زبدة إنتاجه وخميرة الروح التي تكونت من ذلك اللقاء بين عوالم موسيقية مختلفة يوحد بينها الإحساس بلذة الاستماع للموسيقى المتسربة من أنامل عازفين موهوبين وعاشقين للآلة الموسيقية، ومشاهدة جاسر حاج يوسف الشاب الأنيق على الركح حاملا آلته الموسيقية أو متربعا على مقعد وثير جهز له على الركح محتضنا الآلة يمثل في حد ذاته فرجة.
العلاقة الحميمية بين جاسر الحاج يوسف الذي قاد المجموعة الموسيقية باقتدار والذي راوح بين العزف الفردي على “لا فيولا دي لا موري” والعزف الجماعي كانت واضحة جدا فقد كان متأثرا بالألحان ولم يتردد في القيام ببعض الخطوات الراقصة الخفيفة على وقع الإحساس بالإيقاع الجميل.
كانت السهرة التي تمتعت فيها الأذن بالأصوات الساحرة النابعة من آلات الكمان والألطو والأخرى المدغدغة للإحساس النابعة من آلات الباص والكنترباص رائعة ومن طراز عال جدا زادتها إيقاعات القيثارة الشجية والضربات المقتدرة والأنيقة على البيانو جمالا ورونقا. حتى الإيقاعات الصادرة عن آلتي الباتري والباتري سونو كانت مدروسة جيدا كي لا تعلو على الآلات الوترية وعلى آلة البيانو لتكون الخلاصة جد منسجمة. وقد انتشى الجمهور الذي لم يكن عدده كبيرا لكنه كان جمهورا نوعيا متذوقا للفن الراقي وحريصا على عدم تفويت الفرصة النادرة التي منحه إياها مهرجان قرطاج الدولي لحضور عرض راق من طراز عال موجه رأسا لاصحاب الذوق الرفيع أولئك الذين يملكون إحساسا كبيرا وروحا عالية ورئتين نظيفتين لا تتنفسان إلا الروائح الطيبة المنبعثة من الموسيقى الصافية والنقية والمنيعة ضد التلوث السمعي والبصري.
لعلنا نشير إلى أن جاسر الحاج يوسف أصيل مدينة سوسة هو فنان تشبع منذ الصغر بالموسيقى التونسية وتربى على المقامات التونسية وتعامل مع الكبار على غرار صالح المهدي وشبيلة راشد ونال منذ الصغر جوائز هامة قبل أن ينفتح على العالم ويكوّن لنفسه سمعة كبيرة رغم صغر سنه حتى أن أبحاثه الموسيقية صارت تدرس في المعاهد الفرنسية دون أن ننسى قيادته لفرق موسيقية كبيرة في فرنسا مثلا هو معروف جدا في الغرب وحتى في الشرق لكنه غير معروف جدا في تونس ولعل عرضه بمهرجان قرطاج الدولي سيمنحه تأشيرة العبور إلى قلوب أكثر عدد ممكن من الجماهير التونسية.